حصلت هذه القصة في الريف الروسي البعيد عن موسكو قرابة الأربعين ميلاً.. ولدت فتاة تشبه الملائكة من أمٍّ بلغارية ممشوقة تعمل معلمة موسيقا وأبٍ أوكراني طيب المهج وسيم الوجه,لم يجد أمامه سوى الجندية ليتطوع بصفوفها في سنواتٍ عصيبة مرت على العالم كان انفجار القنابل ودويها يعصف بالأيام والليالي الباردة..
كانت ماريا شمعة البيت التي لا تنطفئ, وجهها كالبدر وخدودها كحبات الفراولة في بداية نُضجها, يكمل لوحة جمالها شعرٌ أشقر يتلاعب على أكتافها كسنابل قمحٍ ذهبية تخاف الرياح عليها إن داعبتها أكثر من الكفاية, فرحا بإتيانها هدية من الإله ثمرة حبهما الممتد
سنين طويلة...
كانت ماريا لا تخلو من لهو الأطفال وشقاءٍ ممزوج بالبراءة, توزع ابتسامتها وأسئلتها الملحة على أبويها وهي على تخوم الإدراك وحب الاستكشاف الذي يحيق بسنواتها الأولى ...
كان الوقت ليلاً, والعاصفة تثير لحنها المخيف مع الأغصان بين هبوبٍ وصفير, دون أن تنقطع أصوات الطائرات الحربية المحلقة في الأجواء الدامسة..
كانت ماريا تسأل بين الحين والآخر:
- ما هذه الأصوات يا أبي ...؟
كان الأب يجيب دون أن يبدل عن الحقيقة..:
- إنها الحرب يا صغيرتي..
كثيراً ما كانت بعفويتها تُلحق السؤال التالي بنهاية جواب الأبوين, حتى سألت حينها أيضاً..:
- متى تنتهي الحرب يا أمي؟ ...
أجابتها الأم وهي شبه متذمرة من أسئلتها الملحة...:
- يبدو أنها لن تنتهي...!
قالت ماريا ثانيةً وهي تعيد خصلات شعرها التي انسابت على خدها...:
- لماذا تقوم الحرب يا أبي ؟..
- هكذا يا صغيرتي, ربما حتى نحن الكبار لا نعلم لماذا ؟
وحتى لا يدع ما قاله يلصق برأسها عاد و قال:
- من أجل القضاء على الشر, بعض الناس يحبون الخير, وبعضهم يحبون الشر, هذا يحارب ليغلب ذاك والثاني يحارب ليغلب هذا ...
ثم سألت فجأة سؤالها الذي أظهر علامات الدهشة على والدها...: هل نحن مع الخير أم مع الشر؟...
أجابها الأب: كل الناس مع الخير, أو هكذا يظنون... وخفض صوته في ترداد جملته الأخيرة...
كان الأب جالساً خلف المدخنة يمد قدماً أمامه والأخرى مختفية تحته يقرأ بكتاب (ميخائيل بلجاكوف) والأم في الجهة البعيدة تحضر المعزوفة التي سينشدها التلاميذ في القداس السري الذي سيقام عندهم نهاية السنة كما جرت العادة, بسبب قمع الأنظمة اليسارية الماركسية آنذاك ومحاربتها لكل المعتقدات والأديان السماوية...
كانت السعادة تعبق مليّاً بينهم ثم تحوم حول بيتهم الذي ينتصب كبناءٍ شامخ من القرميد الأحمر القديم بجدرانٍ غير منتظمة وطيدة في بواطن الأرض, ارتفع فوقه السقف الخشبي المائل, وصارت الغرفة العلوية مجرد مستودع بعد أن هجروها من شدة بردها, لون البيت مع الخشب العتيق كان يريح النظر ويهبط القلب في آنٍ واحد, كأن البيت طلي بلون الدم الجاف, من فوقه تفوح أدخنة تتلاعب الريح بعبقها من دون أن تجعلها خطّاً مستقيماً, حول ذلك الكوخ الخليط من الخشب والقرميد الفخاري الداكن تتناثر الأشجار المتشبعة من الثلج كأن الكثافة منعت بعضه من تساقطه فوق الكوخ...
لا يُشاهد في تلك البقعة إلا بعض البيوت المتناثرة البعيدة, وأقرب كائنٍ لهم كلبهم لاري الجالس في عزلته الجانبية متكوماً على نفسه في تلك الأيام العاصفة...
حتى تلك الليلة كان كل شيءٍ على ما يروم, لكن الهدوء لم يطل بعدما صار نباح لاري يعلو, كأنها قطعان الذئاب المهجنة التي تجر العربات المتنقلة وتشاكس كعادتها كلاب الحراسة كلما مرت من قربها, وقفت الزلاجة أمام البيت حتى صاحت ماريا:
- إنه عمي فيكتور... يا أمي .. أحضر لي الهدية..
ردت عليها الأم وهي تبتلع ضحكتها:
ليس هذا وقته يا عزيزتي...باقٍ على الميلاد أكثر من أسبوع .. ابتعدي حتى أرى من القادم...
لم تكد تطلّ من شق الباب حتى أمطر القادم بطرقه على كتف الباب والثلج يطمر قبعته ذات الفراء البني...:
- هل هذا بيت الجندي راستيلوف...؟
قام صاحب البيت من مكانه بعد أن نتر قدمه المختبئة والخوف يغمره, رمى الكتاب الذي بيده على الكرسي واتجه نحو الزائر, فتح الباب ولفحته الريح الباردة, كادت تُغلق الباب من شدتها, لكنه استطاع جره بعد أن رأى وجه زميله الجندي وعلامات الفزع تكسوه..:
- ما بك.. تفضل .. أرعبتني بحق رب السماء ...
قال صديقه الزائر وكأن لهاثه أصيب بانكماشٍ مفاجئ:
- أي سماءٍ...
اخفض صوتك كي لا يسمعنا أحد!!, ربما يراقبون كوخك الآن, أنت وعباراتك الدينية في البلاد البلشفية الدنيوية, تنثرها أينما وقفت...
- قلت لك ألف مرة, كما أن هنالك شمساً واحدة تشرق في هذه السماء, يؤمنون أن هنالك ثورة واحدة ستشرق على هذه الأرض..
دخل الرجل ولم يكد يطأ مدخل البيت, ظل واقفاً خلف الباب مستنداً بيده المغلفة بالقفاز الجلدي ..:
- لا وقت لدينا, عليك أن تهرب, جد لك ولأسرتك مأوىً في أي مكان بعيداً عن الأعين, اعتقل خمسة أشخاص من الفيلق, يقولون: إن القائمة كبيرة واسمك واسمي من بينهم, أشيع علينا ولا أدري من أين! أننا نقوم بالتبشير بين جنود الثورة, وننشر العقائد الدينية بدلاً من الثورية...
لقد وجدوا في خزانتك نسخة من الكتاب المقدس, كذلك مع أحمدوف فتشوا بيته ووجدوا نسخة من القرآن, اعتقل ونقل إلى السجن الكبير...
- أي تبشير...؟ أنت تعلم...! دعوت فقط بعض المقربين للحفل, اعتذر بعضهم وقَبِل آخرون...
- أنت ترى هكذا... لكنهم يرون مثلما يريدون...
هيا.. بسرعة.. تصرف .. أنا ربما أنجو بنفسي وأهرب صوب أقصى شمال فنلندا إن نجوت من العواصف, ثمة منفذ حدودي سيخبرني عنه البحار راسييف... كنت سأنتظرك... لكن ...!
نظر نحو ماريا وكاد يبكي, لكنه كان قاسياً على دمعه, وضع يده المغطاة بالقفاز حول فمه وقال:
- سأودع أسرتي وأذهب... لا تتأخر..
ربت على كتفه وخرج, وفي اللحظة نفسها ركض راستيلوف صوب الخزانة ليُخرج منها بعض الكتب ويرميها على نار المدخنة المتأججة حتى تحترق ويخفي أي دليلٍ عليه إن داهم أحدهم البيت, كان محتاراً يذهب يميناً ويساراً مثل الذي يبحث عن شيءٍ فقده, حصل على سلاحه وخبأه, ولبس معطفه الثقيل, زم الحزام حول وسطه, قبل أن يرتدي القبعة الضخمة ذات الفراء السميك, توجه صوب ابنته ماريا وحملها, احتضنها, رجفت يداه قبل أن ينطق بكلمة, صار يطبطب على رأسها, شهيقه يخرج وكأنه ينازع, لكنه اختزل شعوره المحبط بالعينين المنكسرتين, صارتا تترجرجان, وبكى بغير حساب.. حتى صارت الأم تبكي معه...
كانت ماريا تراقب بتعجب, وليس بإمكانها طرح أحد أسئلتها الغريبة وسط المشاعر الحزينة تلك, لكنها همدت صامتة تراقب...
أخذتها الأم من راستيلوف وتوجهت بها إلى غرفتها وهي تبكي, كانت خطاها ثقيلة وأنفاسها بطيئة ويكاد نحيبها يبدأ بالصعود... دلفت إلى غرفتها لتجهز له الحقيبة, لكن دمعها أثقل رمشيها ودمجت دون أن تدرك الأحلام التي كانت تراها في السابق بما تراه الآن أمامها..
عندما عادت صُعقت, كانت قد سمعت صوت الباب يُغلق, وخيّل إليها صوت لاري ينبح, لكنها جزمت بينها وبين نفسها أن زوجها لا يغادرها دون أن يعانقها...
توجهت نحو الباب والدمع أصبح أكثر غزارة ليشوش أي شيءٍ أمامها وما عادت ترى شيئاً بوضوح.. فتحت الباب, وجدت آثار أقدامه الطازجة على الثلج محفورة, أغلقت الباب والحزن يرجمها, لكنها تشنجت عندما وجدت تلك الورقة الصغيرة المعلقة عند قفل الباب كتبها راستيلوف موقعاً عليها بسرعة واختصار.. فيها:
حبيبتي...
منذ أن قصصتِ حلمك عليَّ وقلتِ: إنكِ شاهدتني أنهي قراءة الكتاب الذي بيدي, لكن ...لا تعلمين ما حل بي عندما قلتِ: إن شخصاً ملامحه غير واضحة كان يحمله وأغلقه بشدة... علمت حينها أنه كتاب حياتي الذي انطوى, وأدركت دون أن أعلمكِ أن صفحات حياتي هي الأخيرة... وإن لم أبتغ ِذلك...كنت أخشى على نفسي وعليكِ أن لا نقاوم الفراق, تذكرت أيامي عند رحيلي للقتال, كنت أموت وأحتضر كل لحظة أبارح فيها كوخنا, تعلمين أني لا أحب لحظات الوداع, كي لا أخط لحظة الوداع ولحظة اللقاء بقلم القدر... لا وداع بيننا... بل إنه اللقاء دوماً سيجمعنا حتى إن لم يكن في روسيا أو في هذا العالم المتحارب.. ليحمِك الرب, إن كتب لي النجاة وعلمت مكان استقراري سآتي لأخذك أنت وابنتي العزيزة ماريا...لا تقلقي...
حبيبك... راستيلوف..
جاء الصباح حزيناً شاحباً دون شمس, وحضر مع شحوبه العسكر الأشد شحابة ليقلبوا البيت رأساً على عقب, سألوها مراراً عن راستيلوف لكنها كانت تجيب بكلمتين لا غير:
- لا أعلم ...
مرت أكثر من ثلاثة أيام, كان يوم الميلاد والاحتفال السري مع العائلة ينتظره الجميع.. ماريا الصغيرة كل ليلة تجلس على كرسي الأب حاملةً الكتاب نفسه دون أن تعلم ماذا تقرأ منه, ودون أن تفهم حرفاً منه, لكن هكذا... ربما كان يذكرها بالأب الغائب, تذكر جلسته حول النار والكتاب بيده...
أو ربما كان تصرفها ملائكيّاً من غير وعي, فهي لا تريد أن يطوى كتاب أبيها..
بعدما تكالبت الأيام دخل مبعوثٌ من الفيلق يحمل ظرفاً, كاد قلب الزوجة يتوقف فجأة.. تحاشى الجدال ورمى لها الظرف ثم لبس قبعته ورحل.. استطاعت أن تلتقط هالة الحزن الغامرة وجهه, أمسكت الظرف ومزقته بعجل, كانت برقية مرسلة مفادها:
لقد هرب الجندي راستيلوف من الخدمة بعد أن اتضح عدم ولائه للثورة, وما أثبت التهمة عليه أنه مضى في هروبه، نود إبلاغكم أن بعض جنود الثورة الشرفاء وجدوا جثته قرب نهر نيفا وأكثر من طلقة رميت عليه, نعتبر الحكم الصادر بحقه من قِبل المحكمة العليا للثورة قد نفذ بحقه, لأن ما فعله قبل هروبه وبعد هروبه يعتبر الخيانة العظمى للثورة وروسية الكبرى..
وقعت الزوجة على الأرض, وقعت معها الورقة متراقصة, مر من أمامها مشاهد تلك الأيام التي قضياها سويةً في خضم الحروب والقصف كتب لهما العيش والنجاة من عند الله, ولم يكتب لهما أن يكملا حياتهما هانئين من كيد البشرية, تتذكر كلماته عندما كان يجالسها... أنه لا يسعى في الحياة سوى لتكوين أسرة, لا يريد إلا أن يبقى قربهم... كل ما كان يحلم به تتذكره, كل ما كان يتحدث به تحفظه, كل شيء في ذلك الكوخ يذكرها بخياله, وقعت فوقها ماريا تبكي وتصرخ خوفاً على أمها, بقيت أكثر من ساعة على تلك الحالة..
ثم فجأة ...
تذكرت كلمات راستيلوف التي خطها على الرسالة قبل رحيله...: لا وداع بيننا... بل إنه اللقاء دوماً سيجمعنا حتى إن لم يكن في روسيا أو في هذا العالم المتحارب..
حَضرت الأم ثوبها الناصع, قالت لماريا أن تلبس ثوبها المجهز للحفلة, زينت نفسها وزينت ماريا..
كانت تردد كل لحظة: تجهزي ماريا... سنقابل أباكِ...
هيا... سنقابل راستيلوف...
كانت تتهرب من سؤال ماريا المكرر, متى سيأتي أبي...؟ كانت تجيب بتهرب: لن يأتي... نحن سنذهب إليه...
أحضرت الأم سُمّاً, ارتجفت يداها, تذكرت ماريا التي كانت واقفة قربها, لكنها ظلت تنظر لصورة الأب المعلقة جانب المكتبة في لباس البوديفكا ...
تجرعت رشفة, ثم نظرت لماريا بحزن وقالت: اشربي جرعة من الدواء معي يا ابنتي حتى لا تشعري بالبرد...
شربت الصغيرة من دون أن تدري ما يدور حولها, كان السم مرّاً كالعلقم, لكنها ظلت ساكتة تنظر نحو أمها, بقيتا تحتضنان إحداهما الأخرى.. تنتظران قدوم الموت الذي سيجمعهما مع راستيلوف...
سمعت الأم ماريا وهي تقول بين النائمة والغائبة:
- أمي ... أسمع صوت أبي ...
ردت عليها الأم ...: نعم ....وأنا أراه نازلاً نحونا من بين النجوم على عربة تنحدر من السماء...