أنا بغداد
ملكة النهرين ... انا ام دجلة والفرات
انا التي اضمحلت ويبست وتشقق جلدها
انا حورية النهرين التي شبكها السفاكون
انا نبتة النهرين التي امست بلا سقاء
انا باخرة الخير الي طاردها القراصنة السفاحون ليذبحوا
روادها وينهبوا خيراتها
انا المولودة البريئة التي دفنت تحت رماد الطائفية الجاهلية
انا النبيَّة التي حرقها القوم على طريقة سيدنا ابراهيم
ولكن من غير ان تكون برداً وسلاما
انا بغداد حفيدة التراث
انا حكاية الدنيا ومدينة النور التي اطفئتموها
وقايضتموها مع الشيطان على كرسي الحكم فانتحرت لتصبح
شهيدة قرن ما بعد العشرين
مرحباً ...
أنا بغداد
لم يحدث لي ان أُرمى في سلة المهملات ...
وأصبح بعيده عن ربيع الحياة ...
كنت مزدحمة العشاق ...
وكنت اذا أسير يعاكسني النسيم والضوء والشجر
وكانت الرسائل تصلني من كل قطر ومكان ...
وكانت نظرة مني تصيب الاف الرجال ...
وحقائبي مليئة بالعناوين وأرقام الهواتف
كنت اذا اتوه يدلني المعجبون ... واذا بكيت تُكمم مقلتي الشفاه
واذا اتسع بي الوقت تحملني الأسلاك عبر الأثير إلى منتدى الحب
كان كل وقتي حب وفرح ومرح
فلماذا إذن أمسيت مثل شاب خلا قلبه من العشق
وَفرُغَت اذناه من وشوشة حب انتحر ومعزوفة حب جديد
وعينان تتوسل بمطلع كل خدٍ أسيل
فما أبشع جسدٍ كان يتنفس عشقاً
فيمسي مثقلاً بالوحدة يُطلق الحسرات !!
مرحباً ...
أنا بغداد
سامحوني اذا قلت لكم باني بعد اليوم لا استطيع ان أُخبيء
دموع الأطفال وأحزان الأرامل وآهات الشيوخ ... لان ذراعي
قد شلها الاحتلال فلم أعد أقوى على مدها لامسح الوجوه
والعيون والقلوب
سامحوني ان تخليت عنكم في العراء بلا ارضٍ او وطن لان
قدمي قد حطمها الاحتلال فلم اعد أقوى على حملكم من
ظلام العصور الى ضوء القمر .
سامحوني ان بقيتم فقراء لان ثروتي امتُصت فلم اعُد
غنية
سامحوني ان بقيتم عراة لأني أصبحت ارض متعددة الجنسيات
سامحوني ان كنت سبباً في موت أبناءكم حباً في أرضكم
سامحوني ان قلت هذا لأني أصبحت غنيمة حرب وساحة
معركة وجحيماً تزهق فيه الأرواح
مرحباً ...
أنا بغداد
كان العراق بلد التمر ...
صار بلد الجراح
كان وطن الأنبياء ... وحصاد السنابل الصفراء
صار وطن الكفر وحصاد الرقاب
كان وطن العنبر
صار وطن الأجساد المقطعة والمعبأة بأكياس العنبر
كان بلد الوحدة والخطباء والأُمناء ... صار بلد الانقسامات
والجواسيس والصامتين
كانت الأعراس تضاهي ضوء القمر
صار بلد المآتم والوجوه التعيسة السوداء
كان بلد الحلم والعشق ...
صار بلد العصابات والقاذفات وجميع صنوف الرعب
رحم الله زمنا ...
كان الجزار بسكينة تهابه الناس وكأنه عنتر بسيفه ...
وكان من يحمل مسدس صغير يخبؤه تحت جلده وفي بطنه
ويُحسب له ألف حساب
أما ألان فالقاذفات في البيوت وداخل السيارات والكلاشنكوف
خلف الظهر وكل الأسلحة الخفيفة والثقيلة في الأسواق والمقاهي
وكان الواحد منا يمشي في ( الكابوي ) او في ساحة حرب
ولكن هل يجوز ان علم النفس لم يكشف الداء الذي
يدفع الأخ لقتل أخيه وأمه وأبيه !
هكذا تحول الإنسان العراقي بقدرة قادر من
كاتب شعر الى قناص ومن غزالة الى
( عصابجيه ) ومن طير الى نسر ذي مخالب
مرحباً ...
أنا بغداد
سمعت ... يقولون عني اني انجبت الحضارة وتمخضت عنها
بحمورابي والفارابي والحياني
وانا اكتشفتُ اني من لا يفهم معنى الحضارة وان ما قيل
عني اثبت زوراً
وكنت ضانة بما سمعت باني المتعلمة الوحيدة في عالم
الجهل والغباء فإذا الأحداث تثبت أني الجاهلة الوحيدة
في الكون وأني ما صنعت حرفاً وما أضئتُ للعالم طريقه ...
والأغرب من هذا أنهم يزعمون ان عمري سبعة ألاف سنة
فإذا بالزمن يكشف بأن العالم اصطنع الحضارة
وبقيت انا بلا حضارة إذن ... انا بنت اليوم ...
فهل يوجد بينكم من يسلفني حضارة ؟
مرحباً ...
أنا بغداد
خجلت من نفسي تسعة مرات
الأولى : عندما نُجست ارضي بأقدام المحتل
الثانية : عندما انشطر قومي
الثالثة : عندما سالت دماء أبنائي بينهم
الرابعة : عندما رأيت الضيوف يذبحون آهل الدار
والخامسة : عندما رأيت الشباب يذوبون لهواً بخمر الاحتلال وهو يتبختر على خمرة عقولهم
السادسة : عندما سمعت أهلي يهتفون بحرية الاحتلال
السابعة : عندما أصبحت بركان يفور أموات
الثامنة : عندما شعرت اني وحيدة
التاسعة : عندما رأيت بعضنا ينكر بعضه عند المصيبة
وأخيراً انا بانتظار ان تصحوا لترفعوني كما كنت حفيدة الشمس وأخت القمر
مرحباً ...
أنا بغداد
كنت قبل الاحتلال
والدة لثمانية عشر أماً ...
وكانت كل ام تحضن أبنائها بالدفء والحنان ...
وكان الموت بعيداً كبعد واشنطن عن بغداد
وكان الأمان أساور ذهبية تتلألأ في أيادي الأمهات وإذا ما تألمت أُمٌ تتألم لها الأرض والسماء ويبدأ الكل يحمل النجوم والدواء لتشخيص المرض وطرده بلا رجعة
كم كنت جميلة حين كنتُ شمساً والنجف عَلماً والسماوة كرماً
وبابل حضارةٌ والبصرة ميناءٌ وكركوك شريانٌ وديالى خضراءً
وذي قار اصالةً ودهوك وكل المحافظات نوراً وضياءاً
اما الان ... فقد تحولت بقدرة الاحتلال وحريته الى رجل غريب طاعن في السن محطم نفسياً وعقلياً فقد جميع أبناءه وتراثه مرة واحدة وتحول النور الى ظلمة والعلم الى ظلامٍ وجهل والحضارة الى طهارة وخلاء والخضراء الى صحراء والأصالة الى هجين والكرم الى جشع والاهوار الى جفاف والميناء الى جرداء والفلوجة الى خراب ومدينة الصدر الى اشلاء والنجف الاشرف الى قرف وحرب شوارع وكل ما نملك من عمارات وقصور الى خرائب وأطلال وجحور للفئران
هذا حال وطن التراث والنور فهل تصدقون !
مرحباً ...
أنا بغداد
صفحات الجرائد أشلاء متناثرة ، منازل محطمة ، خرائب
هذا كل ما تنقله لنا الصحف كل صباح
مناظر مريعة لوجوه مشوهة ، أجساد متفحمة ... لا يستطيع الإنسان العادي من الطبيب ان يقرر هذه القطع
لامرأة ام لرجل ام لطفل
الثلاجات مليئة باللحوم واللشات التي تصل الينا بمعدل جثة كل دقيقة
أهالي المفقودين يبحثون بين أطنان الموتى عن خالٍ في وجهٍ او خاتمٍ في أصبع او وشمٍ في ذراعٍ ...
هل هناك ابشع واشد قسوة من ان يبحث الإنسان عن شريك له لم يبق منه سوى خاتم او عنق او ذراع
هل أصبحت هذه اللحوم المتناثرة و الحطام عنواناً لصحف العراق اليوم؟
هل تحول شكل الحرية الى هذا الخراب في هذا العصر ؟
ان اول مرة في تأريخ العراق ، يرشق على عريسين – في أحدى المناطق – دم أهلهم ونثرات أجساد المهنئين
ربي سُخط الكفر أغشانا
ودماء العبيد سالت
فهل يرضيك ! ؟
ياربي تعجبكم اخوكم محمد